علبة نيدو

كانت بالنوم تتحايل على كوابيس اليقظة في طفولتها. كوابيسها التي يشعلها في عقلها الكبار، حين يهددونها بنار جهنم، إذا ما كذبت، أو بللت فراشها، أو نقلت الأحاديث بين الأقارب، فشبكت بينهم دون قصد.
وفي ليالٍ كثيرة لا يأتيها النوم فتحاول إشغال وقتها بنسخ العبارات التي تكتبها والدتها إلى والدها المسافر للخليج، ليتفاخر بابنته التي لا تتجاوز السابعة، بأنها تعرف كتابة عبارات الحنين والشوق.
تتعب يداها، ويبدأ النعاس يتسلل إلى عقلها، لكن لحظتها تفيق الكوابيس حولها: "ماما..انه الجيش ..الجيش .. يقترب"، ولا سبيل أبداً في تلك اللحظة لإقناعها أنها دقات ساعة الجدار، فقط علبة النيدو الموضوعة بعناية فوق الخزانة تستطيع بلونها الأصفر ولمعانها تهدئتها بأن الأمور بخير.


وفي مساءات كالحة أخرى، حين يُشَيّع الخوف النعاس وتحل مكانه جرثومة الأرق، لا تجد أمامها سوى مراقبة علبة النيدو الحديدية، متمنية لو كانت هي تلك العلبة.. لحظتها لن تخشى أية نيران، وسيقدرها الجميع كما يقدرون النيدو غالي الثمن، الذي يأتي به أعمامها من عملهم في إسرائيل.
وكون الكبار هم من يجلبون علبة النيدو إلا أن ذلك لم يشوش علاقتها بها، بل طالما اعتبرتها مستقلة بذاتها، تهرب إليها كلما ظلموها وضيقوا الطوق الحديدي حول رقبة طفولتها "وين كنت...ليش تأخرت؟ غير نذبحك"، "ليش مش لابسة بنطلون تحت الفستان.. ربنا غير يسخطك قرد ويحطك في النار"، "لا تُنغّمي الآذان خلف المؤذن.. حرام بتروحي على النار".
مرت أعوام وكانت تعتقد أنها تجاوزت علبة النيدو واكتوت بنيران أصدق من نار جهنم، وعاشت كوابيس لا تعرف أبداً التحايل. إلا أنها أيقنت أن خيباتها تطرق باب الأوهام، وتستدعي علبة النيدو بكل حيادها المعدني ذلك، لتبدأ لعبتها مع الاحتمالات غير المحققة: "ماذا لو كنت علبة النيدو تلك؟ لن أعرف الألم، ولن أقابل ثعالب البشر، ولن أتقافز فوق نيران الفشل، سأظل علبة نيدو يقدرها الجميع، ويحرصون على بقائها في مكان أمين".
غالبا ما تشعر أن علبة النيدو حبكتها الشخصية ومفتاح سرها، وأن إيمانها عدمي كمآلها، وخوفها زائل لمجرد اطمئنانها إلى حيادها، وحزنها مفروض لأنها لم تكنها.
وتعلم أن حياتها ستغادر وتسافر لترجع وتدور في مجال علبة النيدو.


0 Responses