مسافات النسيان

كلما أمطرت شعرتُ أني أعرف اللحظة، كأنها مختبئة في الماضي. وأعادها المطر القديم إلى الحاضر. انه يعيد كل الوجوه الغائبة، والأحباب الذين خطفهم الموت بعربة خرافية.
انه مطر قديم يشرع النوافذ على أسئلة الدهشة: لماذا كل ما مررنا به يعود مرة أخرى وبمجرد الانتهاء من عذاباته؟.
فيطبق الحزن على صدري مُكَرراً منذ حزني البعيد، حين كنت في الثامنة وفجعت بموت جدي ..إنها مسافات بعيدة من النسيان بيني وبين جدي، لكن المطر القديم يضعني هناك عند شجرة الزيتون الضخمة بجانبه أثناء جلوسه في باحة البيت القديم الكائن في بلوك (إن)
  في مخيم رفح، وكانت الوكالة وزعت المخيم إلى بلوكات حتى يسهل توزيع مساعداتها على اللاجئين.

 ويضع المصحف أمامه على المسند الخشبي وأنا لا أفارقه بل أجلس تحت الشجرة ألاحق الخنافس رمادية اللون وأذكر أني لم أعد أرى هذا النوع منها أبدا كأن تلك الشجرة كان لها حشراتها الأليفة، وأشعر فجأة بشيء ساخن على رقبتي وأسمع ضحكات جدي، فأعرف أن عصفوراً آخر ألقى فضلاته على رأسي، ويقول لي بوجهه البشوش المليء باللحية البيضاء: "هناك بشارة يا سيدي في الطريق إليك"، فأشعر بالأمان أكثر وأكثر، أمان لا اذكر أني شعرت به بعد ذلك.
مطر قديم أخذني أيضاً إلى لحظة اكتشف فيها جدي أني لا أرى بعيني اليسرى ولم أكن أتجاوز الخامسة، معتقدة أن كل الناس ترى بعين واحدة فقط، فأخذني إلى الطبيب الذي لم يعط للأمر أهمية مما جعل من المستحيل علاجها بعد أن أكتشف طبيب المدرسة عقب ثلاثة أعوام أنها مصابة بكسل في الأعصاب، لا تتوفر إمكانية علاجه بعد بلوغ السادسة.
وحل حزن جديد في حياتي، عين واحدة وجد غائب وشجرة زيتون بتروا جذعها ...لتتساقط بعد ذلك أحزاني المتوالية في حضن اللحظة المنسحبة إلى الماضي، لكن لا يلبث المطر القديم يحول تلك اللحظات إلى قنابل صغيرة موقوتة....


0 Responses