قبر أمي

 معالم قبرها تغيرت عن آخر مرة زرتها فيها، فقد غدا كئيباً أصفر، بعدما كان لونه الأبيض يعزي روحك قليلاً.
"آه يا أمي كيف سيغدو قبرك بعد بضع سنين".
آه لأمه، تتعثر خطواتك حوله... تتناثر معها الحجارة، تماماً مثلما تتراشق شظايا روحك في كل زيارة.
"لو أنك تعرفين يا أمي، ماذا يحدث لي بعدك؟ بالأمس ساعتي توقفت لأول مرة، منذ اشتريتها لي قبل ثلاثة أعوام".
وغدوتَ مرتاباً أن توقفها بمثابة إنذار لموت قريب، أو بالأحرى "موتي أنا، المشكلة ليست أن أموت ولكن أن أنتظر.. أنتظره…".
بالأمس توفي أبو فتحي صانع الفخار، جاركم، في الماضي حملتك أمك صغيراً، إلى هناك، تشترون أواني الشرب خفية عن أبيك، بعدما تعودت كسرها.
كَبُرَ سعد قليلاً وغدا يذهب وحيداً، يدخل من فتحات الشباك التي تنثني بسهولة، ويتسلل سعيداً بعدما يطمئن إلى دخول (أبو فتحي) إلى بيته، الذي تفصله عن الكشك ستارة خضراء قذرة رُسمت عليها ورود بنية، وتبدأ لذتك مع الطين الذي ترك آثار شهوته على ملابسك، وتصرخ أمك: "البقع صعبة على الماء المغلي والزهرة".
ذات مرة رفعت الستارة الفاصلة، تتلصص على الرسومات الأخرى، ووجدت (أم فتحي) تلهو بزوجها.

"أتذكرين يا أمي، بعد فترة، ليست بالقصيرة، أخبرتك بالقصة، قلت لي حينها بحرج: ناس ما بتستحي".
"لم أزر الكشك بعد ذلك، فيداي لم تستطيعا ثني الشباك بعدما رآني صانع الفخار، وأوسعني ضرباً".
قبل يومين، وقف صبحي، مجنون الحارة، وأشار بيده السوداء إلى المقبرة، وقال: "هنا المحكمة".
دق سعد رأسه بسور المقبرة، حيث كان يقبع في إحدى زواياها، يراقب النباتات النامية فوق قبر أمه، وقال: "صبحي الكلب، الذي لا يجيد سوى المواء، أرعبتني كلماته".
نظرت إلى معصمك، ساعتك لا تزال متوقفة، وأنت مازلت ترتديها، وصبحي ما زال يصرخ.
"ابنتي الصغيرة، أتذكرينها؟ أخبرتك عنها في الزيارة السابقة. صباح اليوم أمسكت ذقني بأصابعها السمينة القصيرة وقالت لي: بابا ليش انت زعلان؟ كدت أنفجر بالبكاء. لم أحدثها عن الانتظار الحتمي، ولم أنظر لعينيها الضيقتين، اللتين تشبهان عينيك. زحفتُ مثل طفل تائه إلى سرير أمها، وشكوتُ طفلتنا لها".
مكثتَ في حضنها، تحدثها تارة وتبكي تارات أخرى… ندمت فجأة وهمست: "أمي ليست مجرد ذكرى".
تغيرَ كثيرا منذ رحيلها عنه، فمنذ الصبا أصابته عقدة أوديب، يفكر فيها كثيراً…. "الموت خروج خاطئ عن قوانين الزمن".
تضاعفت حيرته، كان قبرها الدال الوحيد على اختفائها، فلازمه تدريجياً.
عند الفجر، وَجد صبحي المجنون جثتك زرقاء، متكئة على قبر والدتك. أخذ يفتش فيك ويركلك، أعجبته الساعة الفضية في معصمك. سرقها، وراح يضحك بهستيرية.
تنظر ابنة سعد إلى أمها الجميلة. تستغرب بكاءها المتواصل، ثم تنظر إلى أبيها المسجى على السرير: "بابا ليش انت ساكت؟ ماما قولي لبابا صبحي رجّع الساعة، وعقاربها عادت لتتحرك!!".

0 Responses