أرق السياق

كان من الممكن لها أن تنام ببساطة كباقي الناس، لكنها مصابة بلعنة التساؤلات، ولعنة البحث خلف المألوف، وغالباً لا تجد سوى الفراغ. لا تدري هل ذلك لأن عقلها عاجز؟ أم أن هناك بطبيعة الحال من يبحث وينجح؟.
يتشاغل عقلها في الأسهل، إنها الاقتباسات "الأرق حالة وعي" كما يقول إميل سيوران، وكل ليلة تقضيها مع وعي السؤال يتأكد لها ذلك بشكل مذهل، حين تبدأ الأسئلة المتولدة تنهش لحم الليل.
ويؤرقها الليلة موضوع الكتابة والسياق، الذي من المفترض أن تتبعه مع كل نص جديد. سياق، أليست كلمة تشبه الأفعى، ليس لأن حروفها تخرج ممدودة فقط، بل بمنظرها الجميل الذي يخدع للاقتراب منها، فتجد نفسك ملدوغاً بورطة السرد، وخلق السياق.
 وكم تحب هذه الورطة، وكم تكره السياق الذي تكتب فيه الآن. إنه بصيغة الغائب على لسان الراوي، وهي إحدى الصيغ المتعارف عليها في شكل الكتابة الذي غالباً ما يستدعي اتجاهات السرد الثلاثة: (كان من الممكن لها أن تنام) و(كان من الممكن لي أن أنام) و(كان من الممكن لك أن تنام)، وحتى ما يسمى بالتعدد الصوتي "البليفوني" تشعر أنه محبوك أكثر من اللازم، حارماً القصة من خلقها الطبيعي، ويفضح حالة وعي الكاتب بكتابته عند القارئ.


وهنا المعضلة أن يشعر القارئ أنك تستعرض عضلاتك السردية ولا تكتب، أو كما قال لها أحد الكتاب حين أصبحت البليفونية لعبتها: "ابنتي لا تجعلي التكنيك يتحكم في فكرتك". تتذكر أنها يومها حاولت إقناعه أن المضمون يجبرها على اختيار التكنيك، وسألته في المقابل لماذا يضطر الكاتب للاستسلام إلى العادي في السرد، في حين يستطيع أن يشارك القارئ في اختيار سياقاته؟، كما فعلت إيزابيل ليندي في رواية أفروديت، وطرحت على المتلقي جنونها وحيرتها، ليختار معها شكل الكتابة ونوعها، وهل تكتب رواية أم كتاباً للطبخ، أم دليلاً جنسياً؟
ولا تنكر أنها سرعان ما تأثرت في نصوصها اللاحقة بتكنيك رواية الخيميائي، التي سحرتها بسرديتها البسيطة، ومضامينها العميقة، دون أن يستخدم كويلهو نظماً معقدة لعباراته، فاختار الكتابة بصيغة الغائب.
 ورغم قناعتها بأن تلك الصيغة، أو صوت الراوي الإله، كلاسيكي أكثر من اللازم، خاصة وأنه يبدو في السياق عارفاً بكل تفاصيل الشخوص بشكل غير مبرر، إلا أنها كتبت عبره العديد من نصوصها، فقد أثبت لها كويلهو أنه المستوى الصوتي الوحيد الذي ينقل للقارئ الحالة الإنسانية، متجاوزاً إشكاليات اللغة والقص معاً.
وهنا زاد أرقها أرقاً، حين خطر لها سؤال آخر حول إذا ما كانت الغيرة الأدبية دافعاً جيداً ومثمراً للإبداع. إنه سؤال يبعث قلقاً جديداً، يبحث وراء المدى المسموح به للتأثر الأدبي، وتريحها إجابة على هذا التساؤل، عبارة بورخيس "لا ينبغي لكاتب أن يدعي لنفسه الأصالة في الأدب، فالكتاب كلهم ليسوا إلا نساخ أمناء إلى حد ما، ومترجمون لنماذج أصيلة موجودة مسبقاً".
ليلتها تزداد تعقيداً، وتتذكر عبارة وجدوها من آلاف السنين منقوشة على حجر "لا جديد تحت الشمس"، حياوات البشر تتكرر وأساليب السرد ذاتها. وأسئلتها تتمركز ولا تتغير، كيف تصطاد لحظة الواقع مباشرة، بعيداً عن ثقل السرد الذي يسرق وهج الناس والحياة؟ ويشطح عقلها إلى معضلة الكتابة منذ مئات السنين، لماذا لا توازي تعبيرات اللغة أحداث الحياة؟ وهنا تستسلم.. وتنام.


0 Responses