هجران على لوح أسود

هكذا بدأت، التي هجرت زوجها الشاعر يومها: تناولت طبشوراً، وكتبت: "من الجميل أن تهدي كتابك لآخر ليس له علاقة بمضمون أو زمان أو حتى تحرير هذا الكتاب! وربما كانت فكرتي هذه سطحية نوعاً ما، ولكن الأجمل أن يعود الآخر فيهدي الكتاب لصاحبه الأصلي، أما هذه ففكرة مضحكة".
كتبت هذه العبارات على اللوح الأسود في اليوم العشرين على هجرها لزوجها، ثم أكملت طريقها إلى الحمام، وكم تكره حمام شقتها الضيق، فمرآته معلقة تحت لمبة شديدة الإنارة، تصدمها، ليس فقط بسواد الهالات تحت عينيها، إنما بكل نقطة نمش باهتة حول أنفها، والأفجع من ذلك هو اضطرارها لرؤية قصة شعرها الجديدة، فيتأكد إحساسها كلما دخلت الحمام أنها ليست سوى خنزير صغير ملطخ.. إنها تمقت تلك الصباحات التي لا يشفع لها سوى اللوح الأسود.


كانت البداية: لوح عادي تسجل عليه المواعيد المهمة أو ملاحظاتها اليومية، لكن زواجها انتهى به إلى دفتر مذكرات، هي لم تقصد ذلك، لكنه غدا دفترها الصريح والمحدود المساحة... وربما كان صريحاً إلى درجة غير مرغوب بها.
فمثلاً تخيل أن تدخل منزلك بعد ليلة قضيتها مستمتعاً مع أصدقائك في محاولة لإخماد نار الماضي المكشوفة، وتجد في انتظارك على السواد المهدور: "قضيت ليال ونهارات مفتوحة على الأبد في تبرير عنادي وانتظار الحب الحقيقي.. المعجزة".
أن تجد نفسك كل يوم مجبراً على قراءة ما كتبته في لحظة نقاء أو شعور بالذنب، لهو مقصلة أقمتها لقلبك، وإذا قررت بعدها ألا تكتب فسرعان ما ينعكس صدى سواد اللوح إلى عقلك.. الهروب.
ظهر اليوم الثلاثين كتبت: "إن الزواج بشاعر ليس الألم وحسب، وليس الحب وحسب، انه النهاية القصوى لكل ذلك.. انه يحول المرأة لكائن، إما شديد التنمر أو مدمن عبودية".
لم تعد قادرة على تحديد مصير اللوح الأسود، فقد أصبح مخلوقاً شديد الحيوية والتطلب، جعلها تهمل الكتابة الطبيعية، وتتجاهل نداهة الحب والحياة، وتكتب في اليوم الأربعين: "نادراً ما أعجبني ما يكتبه في مقاله الأسبوعي، ربما لأنني لم أعتد هذه الكتابة المترفة، ولا أقصد الأوراق الناعمة الملونة، رغم أنني طالما أحببت الأوراق الفقيرة الصفراء، للكتب والمجلات التي شجعها الفكر الاشتراكي، ليتساوى الجميع في القدرة على الشراء –هذا ليس موضوعي- بل اقصد ترف أن كل ما يكتبه عن ذاته ومعاناته وتجاربه، التي نادراً ما تكون نابعة من الهم الحقيقي للإنسانية، فتتكرر الألفاظ والأحزان والذكريات وحتى الاندهاشات تصبح مألوفة، فيزكم إدراكك كقارئ يحمل نقاوة كيلهو وكنفاني وماركيز، ويزداد المضمون برجزة حين تحدث هذه المعاناة والحياة في مصاعد زجاجية".
كلما فكرت وحللت أكثر تزداد مقصلة القلب حدة وتفتتاً لأنها تدرك أي اختيار سفحت فيه حبها وأحلامها، وفي اليوم الخمسين كتبت: "تمر الأيام بطيئة جافة تجرحها لحظات ينهمر ويفيض فيها ما كبته الانتظار، ربما صوت عاد بالأمل، وربما إهداؤك كتاب شعر... كتابه الجديد... لن أنكر أنني معجبة بقصائده النثرية... وعيه بالقصيدة الحرة، وموهبته الحقيقية تمتص ببساطة كل شوائب مقالاته. لست على دراية كافية بالشعر لمدحه، لكنه فقط ذاك الإدراك بأن ما يكتبه يشف روحك خوفه وحبه ووداعه، وحتى موته، إلى درجة أني اعرف أنها قصيدته فور سماعي لكلمة واحدة منها، فأتذكر فجأة: أجواءه، وكلماته وحالاته ونساءه، إن كتابه تجسيد لشغفنا بالهلاك والحب".
كان أصعب ما يمكنها عمله يومياً مسح اللوح لتملأه من جديد، رغم أن فراغ اللوح من بياض الكتابة يشعرها أحياناً بالراحة والخفة.
تسعون يوماً مرت، وتشعر بالسعادة لأنها المرأة الوحيدة ممن كن في حياته التي لن تتساءل وهي تقرأ قصائده، هل يقصدني هنا؟... المرأة الوحيدة التي تركته ولم يتركها هو... المرأة الوحيدة التي لا تبالي بهذا الترك، وإنما بمداواة جرحها ولوحها الأسود.
اقتبست في اليوم المائة: "ليس من الضروري معرفة شياطينك الخاصة لكي تجد الله".
وفي اليوم التالي تبرعت زوجة الشاعر بلوحها إلى حضانة الأطفال المجاورة لشقتها الكريهة.


0 Responses