ثرثرة لطيفة


حدثوني أنك تمتمت اسمي بعدما أفقت من العملية الجراحية في ضرسك، ولم يعرفوا بعد أن كل ما بيننا كان ثرثرة لطيفة، لا تجتاز قضبان القلب، أو حتى علموا بشجارنا الأخير، وحديثك العقيم عن النماذج التي غدوت محصوراً بها، وكنت ذاتك أحدها.
البداية جميلة، وكم بريئة البدايات، خاصة في محل لبيع الزهور، حين بدأ صاحب المحل العجوز يتحدث عن "عدلي جاسم" كاتب المقالات المعروف في تلك الصحيفة اليومية، رافضاً دعوته إلى تجنب الكفاح المسلح. وأنا أحاول تجاهلك أثناء ثرثرة صاحب المحل الملتحي، محدقة في الزهور، رغم أنني كنت أراقبك: كم هي دقيقة ملامحك، خاصة حين تزم شفتيك عقب تفاخرك بأنك تكتب في الجريدة ذاتها، لكن في الشؤون الثقافية.
أتأمل يدي العجوز وهي تصنع لي ولك باقات الورد، واطلب منه مراعاة أنها مهداة إلى مريضة. يسألني صاحب المحل "خير إن شاء الله؟".


- أنت تعرف كيف نتحول فجأة إلى تعساء ومرضى، اكتشفوا إصابتها بالسحايا (التهاب في المخ) في فترة متأخرة.
أحدثه لكنني أشعر بحركتك أثناء تسجيلك اسمك على بطاقة الورود.. تعرفت إليه.
سألك العجوز: "ماذا تكتب في الجريدة؟".
- ربما الشعر.
بعد مرور شهور على تلك المصادفة قلت لي إن ذلك العجوز محظوظ، لأنه يستطيع أن يجد أكثر من موضوع يثير عنده رغبة "الحكي" في الوقت ذاته، فرددت: "لا ادري ربما نقل إلينا ذاك اليوم فيروس الكلام؟".
فتقهقه: "لا بل أنت نقلتِ لي فيروساً من نوع آخر، أولا تحدثيه عن السحايا، ثم تسأليه عن ورود جورية زرقاء. هل تصدقي، شعرت أنك مجنونة، أو ربما غريبة ما، تحاول جذب الأنظار إليها؟!!"
لم يحدثنا العجوز بعد ذلك، حين أصبحنا نمر عليه معاً، أو حتى يشكو كاتب المقالات، على الرغم من أن الكاتب دعا إلى العودة لمفاوضات التسوية في كتاباته الأخيرة، لكن لم يهم وقتها أي شيء. سرقتنا شهوة الكلام حتى حين كانت تمنحنا الحياة متسعاً لشهوات أخرى.
ذات مساء، وجدتك تكتب إحدى قصائدك، محتاراً في اختيارك لزمن الأفعال، فهل تقول مثلاً: "زمن يقودنا فيه رهاب الموت أم قادنا فيه"، وبعد طول جدال وخلاف جذري، سحبتك إلى موضوع آخر: "عرفت لماذا العجوز لا يتحدث إلينا؟ إنه يشعر بذنب أن محله كان مسقط رأس معرفتنا".
لحظتها ثُرت في وجهي: "إلى متى تظلين قلقة حول ماذا يعتقد الناس بك، أم هذا يقع ضمن بحثك حول مراقبة العبثي والمتدين، لتعرفي لماذا الأول يكتب أفضل من الثاني؟".
- ولكن.. إنه مجرد بائع زهور، وليس مفكراً، ومواطن آخر متدين من الملايين المحيطين بنا.
- أعرف.. لكنه خالف نظريتك حول وجوب صمت المتدين اكثر من العبثي.
- نعم لأنه مطمئن.
- إلى تلك الحقيقة.. هل مازلت تعتقدين بوجوده؟
صمتنا كغير عادتنا، لكن استفزازك لم ينته بعد، فباغتّني فجأة "لماذا قلت مسقط رأس معرفتنا وليس حبنا؟ هل الجهل قيد الحب والمعرفة ضمان استمراره، أم العكس؟".. كنت متيقنة من إجابتك.. وقلقت من معرفتنا لأفكارنا ومفرداتها، وتركتك لاعنة قصيدة التفعيلة المملة تلك.
مرت الشهور وكان بيننا الحب والمعرفة والخوف، وابتعنا آلاف الورود من العجوز المتدين، لكنك فجأة، كما تذكر أيها الشاعر، تغيرت عباراتك لتصبح كعبارات كل الرجال حين ينوون هجر الحب ".. أحبك.. لا أستحقك.. أنقذك من عذابي..". وأحياناً تحاول فذلكة عباراتك بما يليق بمثقف يساري وتقول: "أنا محاصر بنماذج لا تليق بك أو ربما أنت مختلفة عنها". وكنت أخيراً قد تفوهت بما يحزن القلب وينبئ بالفراق.
 في محل الزهور سمعت عن مرضك لأول مرة من العجوز الملتحي بعدما فتحت معه مائة موضوع لأصل إليك.
-كانت رأسه تؤلمه بشدة، اعتقد أنه مصاب بالسحايا ولكنها كانت مجرد التهابات في ضرس العقل، وعملوا له عملية لخلعه.
ابتسمت لأني تركت فيك شيئاً على الأقل ولو أنه هاجس المرض بدل أطياف الحب الجميلة.


0 Responses