سطر في ورقة

خرج مسرعاً بعد انتهاء دوامه متوجهاً إلى بيته. كان يشعر بحاجته إلى الوصول، لأن هناك اليوم ما يستدعي أن يتمدد طويلاً على السرير، ويفكر في الكثير من الأشياء.
أسعد ينظر إلى الفراغ واضعاً كفه على جبينه، ممدداً على سريره، الذي يستشعره كفنا سيحلق به أبداً في سماءٍ سوداء خالية من القمر والنجوم، حين قال ذلك لأمه ذات مرة ردت عليه ساخرة: "السرير ثقيل على الطيران".
تذكر كيف كان تفكيره مغيباً عما دار اليوم داخل الفصل: "يا ترى هل شعرت الطالبات بشرودي؟ فقد سمعتهن يتهامسن. أستطيع استرجاع السنوات الماضية جيداً، فهي مثل أوراق طويلة طويت بسرعة، ولا شيء مثير في هذه الأوراق غير سطر في كل واحدة منها يلخص ما حدث سابقاً، ويبدو أن عليّ اليوم أن أنهي ذلك السطر، وكالعادة بكثير من الصعوبة..".


عشر فناجين قهوة، علبتا سجائر، يجلس على حافة السرير مرة، يتمدد مرة أخرى، وربما القرفصاء أحياناً.
أيها الرجل الكئيب، أصبح اليوم عمرك ثلاثين عاماً، لا محالة من اصطياد السنوات الضائعة، إنها مثل ذرات غبار متشابهة تتجه نحو الشمس.. إلى الموت.
"سأموت وحيداً، وأدفن وحيداً، حتى هي ربما تبكيني، لكنني سأموت وحيداً، نتمناه، نخافه، إنه متربص بنا".
قال لي جارنا ذات عاصفة: "يجب عليك الزواج يا أسعد، الشباب في مثل سنك لهم ولدان وثلاثة"، "يا للهراء، لقد صنفني ذلك المعتوه كعانس وحيد، كلنا نفعل ذلك، كل واحد منا يصنف الآخر على هواه وينظر إليه من خلال منظاره الضيق فقط".
يحدث ذلك دائماً أيها الرجل الكئيب، ترتمي بين أمواج البحر حتى تصبح جزءاً من لُزوجته، وتصرخ قائلاً: "لقد فشلت"، وربما تضع رأسك باكياً على صدرها، وتقول متحشرجاً: "لقد فشلت..".
في كل الأحوال اعترافك لن يبعد الفشل عنك أبداً.
"أبي.. أين أنت؟ لم أصدق أنك تركتني غريباً في ذلك اليوم، الذي أستشعره باهتاً يحدق في الأزمنة اللاحقة".
أيها الرجل الكئيب، حتى عندما مات أبوك شعرت شعوراً كبيراً بالذنب، لأنك لم تقبله أكثر مما قبلته، ولم تتلمس عروق يديه البارزة أكثر مما لمست، ولم تضع ملامحه ونبرات صوته في قلبك أكثر مما فعلت.
"قرأت ذات مرة أن من لم يشم زهرة أو يتأمل نجمة، ليس إنساناً بل طحلباً.. ربما لو كنتُ طحلباً لتغيرت الكثير من العذابات.. لكنني أشمئز من برودته".
كونك إنساناً ولست طحلباً يجعلك أيها الكئيب تنسى أن تعيش حياتك أنت.. هو يتنفس.. هو يتعايش.. هو قابع.
"أنا أتنفس..أنا أتعايش..أنا قابع..".
كلها عندك أيها الرجل التعس مفردات لمعنى واحد، أنك ميت.
 "قررت أن أهجر عائلتي لأنها تحد من حريتي، وأستقيل من عملي لأنه لا يمنحني التجربة الصادقة وأترك أصدقائي لأنهم يضحكون كثيرا".. هل تتذكر كم مرة قفزت من سريرك سعيداً إثر قراراتك تلك؟ ثم ماذا؟ ما زلت تنفي نفسك، وتذوب شوقاً وتعاسة.. إنك ترقص في حلقة ستظل تدور في فراغ لا يموت، وتحاول الاقتناع بأن ذلك السطر الإلزامي كافٍ لإنصاف ذاتك.
دقت الساعة السابعة صباحاً: "يجب أن أرتدي ملابسي بسرعة حتى لا يفوتني طابور الصباح..".
انظر إلى نفسك، إنك تنجرف من جديد في ذلك التيار اللامنتهي.  


0 Responses