أنت وأنا

خرجت اليوم إلى الجامعة. أعرف طريقي ولا أعرفه.
نظرت إلى السماء التي لم آلفها حبيسة خلف الغيوم الرمادية، وتعثرت كالعادة بغطاء المصرف الصحي الذي يمتد حتى آخر الشارع، بين جنبات حارتنا المتخمة بأولاد المدارس، وعربات الباعة الجوالين ودكاكين الخضار، والجزار الذي يلتصق بلحم خروفه المعلق كأنه يتدفأ به من لسعات الريح الباردة .
(المهلبية بالعسل ... المهلبية الزاكية)
ابتعدت. التصقت بسور المدرسة كالعادة أيضا، حتى لا تصدمني إحدى هذه العربات المزركشة، أو العيون الصغيرة ببراءتها، تعودت هذا الخجل كلما نظرت إلى أطفال المدارس التي تحيط أسوارها تخوم حارتنا الغربية.
أتثاقل في خطواتي، وأراقبهم بتلصص.. تلك الطفلة تبكي بحرقة، وهي تقف أمام غطاء المصرف الصحي كبير الفتحات، فيبدو أن مصروفها سقط في جوفه.. تحاول جاهدة أن تدخل عوداً رفيعاً، لكن دون فائدة، وذلك الطفل يأكل (الكلمنتينة)، وصديقه يراوغه محاولاً اختطاف بعضها، وترتفع ضحكاتهما حتى شعرت أن أصداءها وصلت عنان السماء، وأخرى تحيط أختها الصغيرة بيدها محاولة تدفئتها، وبالأخرى تصلح ربطة شعرها.. يبقون هكذا صغاراً وحميميين، بمراييلهم وقمصانهم الزرقاء مهما تجددت الأعوام.


دقائق وخفت الجلبة، ورجعت إلى ادماني الأبدي على العد، أعد كل شيء متجاور ومتشابه، أغطية المصارف المتلاحقة (كما أفعل الآن)، أدوار المباني، ونوافذها، وشرفاتها، وأعمدة الكهرباء، وأبواب المحال المغلقة.
 أبواب الخزانات داخل البيت، والبلاطات، والوسائد، ورفوف الثلاجة، كراسي القاعة داخل الجامعة، ودرجات المبنى، والأشكال الهندسية المرسومة على ربطة عنق الأستاذ.
أعدها، وأعيد العد، وأستمتع، وأنسى وأذوب في النسيان.. أنسى وجهك.. ملامحك.. عينيك الملتصقتين في روحي كفراشة بيضاء، التصقت بسيلان شمعة مضيئة.
وأتذكرك.. أتذكرنا وتلك الأيام الجميلة، والفرص التي غدت غير ضائعة، لأننا معاً ونداء الرحيل الذي لم يعد يخيفنا، لأننا معاً، والشمس تشرق، وتتبخر قطرات الندى آخذة معها كل الألم، لأننا معاً..
وأعيد العد، خطوة.. اثنتان.. ثلاث.. أربع..
وأنسى أنك شاركتني جنوني وعددت معي ذات مرة المتشابهات، واحتملت أحاديثي وحكاياتي بكل تفاصيلها المملة، واحتملت عاداتي وصفاتي السيئة، أو التي كانت سيئة بنظرك عل الأقل، واحتملتني أنا ذاتي، بكآبتي وأخطائي وصمتي وانعزالي حتى عنك، من هنا اتسع الجرح وزاد النزف.
وأبدأ العد من جديد، كم مرة يطبق الدكتور شفتيه وهو يتحدث؟
_ "علم المعاني يدرس أساليب الخبر والانشاء لغرض فني وليس نحوياً، وأضرب الخبر تعتمد في تصنيفها على حال المخاطب، خالي الذهن أومتردداً ومنكراً".
_ "ولكن المتكلم يا دكتور أين هو من حديثه؟ فليس شرطاً أن يكون لكل متكلم مخاطب، وكثيراً ما يتخيل المتكلم وجود مخاطب.. ولكن الهدف في الاساس التعبير عن وجدانه ومشاعره!".
_ "المتكلم دائما يعلم في داخله أن هناك من سيقرأ كلامه أو يسمعه.. ويبقي هذا بمثابة رقيب على أساليبه الخبرية".
وأعيد العد.. مرة.. اثنتين.. ثلاثاً.. كي أنساك، وأنسى كل شيء، حال المخاطب ودور المتكلم، وأنني يجب أن أكون هو، لترجع السماء وأراها صافية من سطح منزلكم، لكن كل ذلك بلا فائدة، بلا طائل، فالعالم هو العالم حتى عندما نخلو نحن والصفاء منه.. قد يكون مغبشاً.. باهت الملامح.. نفوسنا فيه غريبة وأرواحنا شريدة.. لكنه هو ذات العالم، سائر على حزن أيامه الماضية وغموض القادمة، غير عابئ بأنه انتهى حين انتهينا ولو كان انتهاؤه للحظات.
وأعيد العد، وأنسى أنني تذكرتك، وأستمتع وأذوب في النسيان، وأنسى تلك الغيوم المفروشة، وأمطارها الناعمة التي جمعتنا مراراً خلف النافذة، ورائحة التراب المعتق، وأركض في شوارع مبللة تمتد ثعابين لامعة، فارغة الا من أشجار الكينيا، تلك التي تذكرني ببوابة مدرستك الابتدائية.. أو أظن أنها الاعدادية، وحارس المدرسة الذي اعتاد لملمة أوراقها وحرقها، على ذمة حديثك.
شجرة.. شجرتان.. ثلاث شجرات..
أركض، وتتسارع ملامح الصور حولي وتضيع الأرقام، وتبقى رائحة الكينيا عالقة في حلقي، وبقايا حشرجات محنطة.
قطرة.. قطرتان.. وذلك على الرغم من أن مظلة الدكان لا تسرب الماء، ثلاث قطرات.. أربع.. وازداد التصاقاً بنفسي، أراقب سيارات الأجرة الصفراء الراكدة في الموقف، بعد اغلاق الجيش لمداخل المدن، وأذكر طريقك اليومي الى البيت وساعات الانتظار، وعشرات القصص والشكاوى التي يرويها لك الركاب ثم ترويها لي، وأسخر منك (عندك آذان للتأجير).. وتتدفق قصصك: "ذلك الرجل يحمل كمبيوتراً يدوياً ويفتحه أمام الركاب والعالم، تخيلي التكنولوجيا في عتمة الحصار، وآخر يبكي بصمت ولا يتوانى عن رواية قصته للجميع: عين ابني الزجاجية التي ركبها بعد اصابته برصاصة معدنية سقطت أمس أمام زملائه على كتابه المدرسي، وتلك المرأة اللاهثة تحمل أولادها الكثر في كل مكان، وتصر على تمريرهم بين الركاب (عندها هوس أمني)".
تسع سيارات.. عشر، والأمطار تتلاشى.. أربع عشرة سيارة.. وأمشي بمحاذاة الحائط تلافياً لبرك المياه.. عشرون سيارة.. احدى وعشرون سيارة.. ما هذا؟ متى سأكف عن العد؟ حاولت مراراً أن أتذكر أول مرة عددت فيها لكن الضباب حال دوني وذلك السفر، إنه يسبب لي الصداع خاصة عندما أمسك نفسي متلبسة به، أو يرتفع اصبعك فجأة يتهمني (انك تعدّين من جديد وتتركيني أثرثر).
ثلاثة قبور... ستة قبور..
اقتربت من البيت، فها هو المعلم الأثري الوحيد في المنطقة، اثنا عشر قبراً.. خمسة عشر..
وأنسى أننا سنغدو أرقاماً نحن أيضاً، وأن هناك من سيدفعه الفضول، مثلما فعلنا أنت وأنا ذات مرة، ويزور المقبرة ليكتشف أحدث القبور وأقدمها.. وربما ستكون حفرتنا أحدثها، وربما ستعجبه اللعبة، ويحفر لنفسه قبراً آخر.
ثمانية عشر قبراً.. واحد وعشرون..
ما أصعب عد القبور.. وكم نحن قساة والحياة قصيرة، وبداياتها.. آه من جدب وحيرة تلك البدايات.
غطاء.. غطاءان.. ثلاثة أغطية.. رجعت لأغطية المصارف المتلاحقة مع نهاية النهار، وأنت وأنا نحب النهايات، اللحام يستعد لاغلاق أبواب محله، وأتخيل ردة فعلك لو همست لك (يبدو أنه فضّل لحم زوجته على لحم خروفه).
وأطفال المدارس رحلوا مخلفين آثارهم أملاً في الرجوع، والشعارات الوطنية تملأ الأسوار، وأتساءل أيهم أجدى في الكتابة الجدارية، الجمل الانشائية أم الخبرية؟ وتمنيت لو أنني شاركتك السؤال قبل ذلك.
وأعيد العد، خطوة.. اثنتان.. ثلاث.. وأذكر أن هناك الكثير من المتشابهات في المنزل لم نتشارك في عدّها بعد.
ونبدأ أنت وأنا والعد نكتب قصتنا من جديد: خرجت اليوم الى الجامعة أعرف طريقي ولا أعرفه.. نظرت إلى السماء التي لم آلفها حبيسة خلف الغيوم الرمادية، وتعثرت كالعادة بغطاء المصرف الصحي..


0 Responses