الناقد فخري صالح يتحدث إلى أسماء الغول



شعراء قصيدة النثر بحاجة إلي وقفة 
مع تجاربهم وتجارب أسلافهم

واجهتني تحديات كثيرة خلال إجراء هذا الحوار مع الناقد والمترجم فخري صالح، كإمكانية إيجاد وقت نجري فيه اللقاء خلال اليومين اللذين قضيناهما في مدينة جونجو بكوريا الجنوبية، وذلك في وقت يعج بالندوات وإعداد الكلمات التي من المفترض إلقاؤها خلال الجلسات التحضيرية لمهرجان آسيا وأفريقيا الأدبي، المقرر عقده في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وتنظمه مؤسسة تحمل العنوان ذاته بدعم من وزارة الثقافة الكورية.
ولم أجد مفراً من إقلاق راحة الناقد فخري صالح، وإجراء الحوار خلال ساعات الفجر الأولي، بينما التحدي الآخر يتعلق بصعوبة مجاراة حيويته وفطنته وحساسيته العالية تجاه شؤون النقد، وتذوقه الأدبي، وقراءاته الموسعة..
بيد أن كل ذلك هان، إضافة إلي الوقت المديد الذي استغرقته الصياغة، بسبب انعدام برنامج الوورد العربي في أنظمة الحواسيب هنا، أمام حوار غير عادي ولا يشبه تلك الحوارات الروتينية التجاذبات، بل نقاش ومقارنات تقودها الأفكار المتواليةإلي عقله، لدرجة أنه لم يجلس كثيراً إلي طاولة النقاش، بل كان يتحرك جيئةً وذهاباً تماشياً مع الدفق الفكري والدقيق للكلمات وطاقاتها.
الناقد فخري صالح ألف وترجم أكثر من خمسة وعشرين كتاباً، وكان قد تخرج من قسم آداب اللغة الانكليزية والفلسفة في الجامعة الأردنية في العام 1998، وذلك بعدما تمرد علي كلية الطب، اللازمة المعروفة في سيرته الذاتية.. حيث وبتخطيط ترك الطب مودعاً المشرحة وجثثها وملاحظاته الطبية، وأخلص لعشقه وموهبته في النقد، إذ كان حتي ذلك الوقت قد نشر أربعة من كتبه الشهيرة حول الرواية والقصة القصيرة في فلسطين وتجربة أبو سلمي الشعرية، وهو لم يكمل آنذاك الرابعة والعشرين بعد.
يتذكر صالح تلك الأحداث بحماس كبير، ولكن أحياناً تشعر أن الذكريات أخذته إلي ألم دفين يتعلق وقتذاك بحزن والديه، اللذين كانا ينتظران في قرية اليامون بجنين عودة ابنهما الدكتور، إلا أنه سرعان ما يطرد ذكرياته قائلاً: لكني كنت أعرف طريقي منذ تلك الأيام، وأني أرغب بقية حياتي بالخوض في بحار النقد والأدب .
فخري صالح، لا أحد يملك إلا أن يكون صديقه، لإنسانيته وطيبته الساميتين، وفي الآن ذاته لا يسعه سوي تقدير آرائه وإبداعاته النقدية، فكما يقول عنه صديقنا المشترك الشاعر الهندي أنفر علي:
This is the creative mind to be a human being as much as it is profeional
هذا هو العقل المبدع.. أن يكون إنسانا بقدر ما هو محترف .
إيذاناً بالنشر، تحدثنا في الشعر، والرواية، والحداثة، والنقد، ولغير العلن تهامسنا عن جدوي تماهي الأدب الفلسطيني بالقضية، وسر محبته لميلان كونديرا، وبضع آراء حول بعض الكتاب والكتب.. وجاء العزف عن نشرها، رغم أن شيطان الصحافة لا ينفك يغويني بالذهاب إلي عكس ذلك، والدخول في خانة الثرثرة وردود الفعل.

اقتراباً من جغرافيا درويش




مرعبة اللحظات التي ستأتي، أفتقده فيها وأتذكر عينيه.. صوته..تعليقاته الساخرة.. حنانه، وامتلاكه لسلطة البداهة، لقد كان غريباً في مدينة غريبة، يحتفظ بتذمره داخله من سذاجة مستضيفه إلا أن الضيق لا يلامس ملامحه.
قوي، يلتزم بتعليمات طبيب القلب، كل الحياة في صوته وضحكته وجسده الطويل الرشيق، الذي لا أتخيل الآن أي كفن ذاك الذي يلفه.
درويش العذب الذي كان يناديني بـ'يا بنت'، وتارة: 'يا عمو' وحين اعترضت ضحك قائلاً: بماذا أناديك إذن يا غزاوية؟...فأرد مدافعة أنا لست غزاوية أنا لاجئة من صرفند العمار. درويش وصف مدينة سيؤول بالجيدة، لكنه مصر أن لا مدينة تنافس في جمالها باريس، سألني أين تقع مدينة جونجو الريفية في شمال أم جنوب سيؤول؟، فأجبت دون تردد في الشمال، وبصوت منخفض أضعف تبعتها بـ'أظن'، ثم سألني عن اسم النهر الذي يمر تحتنا؟ فأجبت لست جيدة بالجغرافيا، فقال بغضب طفيف: كيف تقولين إذن أنك دليلٌ سياحيٌ؟

يباس في القلب

أحبها عند الحاجز العسكري وكان يملك كل الأسباب ليفعل ذلك وتتعمق في خيالاته منذ تلك اللحظة.
قال لها فيما بعد: "كنت جميلة صغيرة وضائعة إلى أبعد حد. تحاولين تجاوز السيارات المتساحقة التي تنتظر الاحتلال ليفرج عنها".
كان حينها يمتلك سيارة سبارو بيضاء قديمة، وكان يبدو في العشرين إلا أنها عرفت لاحقاً أنه كان في الثلاثين من عمره.
ابتعدا وبقيت ساكنة عينيه ليتقابلا بعد ثلاثة أعوام صدفة أيضاً وكما انتشلها المرة الأولى من الانتظار وكان بوصلتها. انتشلها المرة الثانية من حزنها ووضعها في مواجهة الحب بدل تقديم روحها قرباناً للعدم.
"القبلة الأولى"
لم يكن الأمر بالحسبان، كانا يتكلمان ويكتشفان المتشابه بينهما، في البداية شعر أن خلاياه تشتهيها بمجرد أن يشم رائحة كريم اليدين الذي اعتادت استعماله خوفاً من تقشف بشرتها في الشتاء، فاقترب وكانت هي الأخرى مأخوذة بشفتيه المكتنزتين رغم أن السجائر غيرتهما إلى اللون الأزرق. لم يتنبأ لكنها باغتته وبادرت بالقبلة، فباغتها ثأراً لرجولته بلسانه وكأنه كان يتربص لفمها.
ضحكا كثيراً حين تصارحا حول القبلة الأولى وبررا جرأتهما أنهما لم يريدا إخفاء مشاعرهما الحقيقية تحت غطاء موهوم من هالات الأنبياء.
"القبلة الثانية"
كان يعتقد أنه اعتاد على رائحة كريمها لكنه تفاجأ أن هناك المزيد مما يثيره فيها، فهناك شاماتها المتناثرة على رقبتها وبشرتها البيضاء الصافية، ما جعله مقتنعاً أنها لو شربت رشفة ماء فسيراه يجري في حلقها، وصدق خيالاته لدرجة تعمد مراقبتها مرة أو مرتين تشرب، كانت شهوته تسكت عقله فلا يقتصر الأمر على لسانه بل أصبح للحب شياطينه المقدسة.

ورقة واحدة مشوشة

ورقة واحدة وعينان حزينتان كأولئك الدراويش الهائمين في حضرة التواشيح والذكر، هذا كل ما تملكه حين يشدها تجلي اللغة من شرايين قلبها لتدخل إلى نار الكتابة وتحترق بألسنتها ...تعرف أن ورقة واحدة لا تكفي كي تكتب إلا أنها غالباً لا تمتلك غير ورقة واحدة وبالأحرى ظهر ورقة مشوشة بالكتابة من الجهة الأخرى.
وتصبح الكتابة عندها ليست فقط موسومة بقلق المعنى بل بقلق آخر فني انه ضيق الورقة أمام اتساع اللغة..ومتأكدة أن هذا القلق الفني الذي يعكر صفو السرد ليس صدفة بل هي من يتآمر على هذا النقص..فالبياض يخيفها ويجبرها على ملئه بنزيف كتابة يقربها من الموت للوصول إلى النموذج.

بدايات


 إلى نائلة خليل 

اليوم فقط بعد ثلاث سنوات على استخدامها نظرت إلى نوتتي فاكتشفت أنها أليفة وقريبة من قلبي، واليوم أيضا شعرت أن حبي له منساب إلى مسامي..نظرت إلى عينيه الضيقتين فعرفت أنهما تشبهان عيني وأني منه وهو مني وليس مجرد أن قطاراتنا تجاورت في محطة اضطرارية اسمها الأمومة.. نظرت إليه طويلاً يستدعيني الشوق بسهولة دون غبش... فكانت هذه بداية الحب.
***
منذ كنت في الثالثة وأنا اعرف أن شأني سيكون كبيراً وأنتظر المصادفة أو تطوراً طبيعياً ليتحقق ذلك الشأن لكن الأعوام تمر والفشل يتلاحق، لأكتشف ألا شيء تغير. فأقنع نفسي بأنها الظروف وليست الإمكانات، لكني اليوم عرفت أن الموهبة درجات وأني موهوبة بتواضع، لذلك قررت ألا أبكي على أحلام طفلة متفائلة... فكانت هذه بداية الرضا.
***

مسافات النسيان

كلما أمطرت شعرتُ أني أعرف اللحظة، كأنها مختبئة في الماضي. وأعادها المطر القديم إلى الحاضر. انه يعيد كل الوجوه الغائبة، والأحباب الذين خطفهم الموت بعربة خرافية.
انه مطر قديم يشرع النوافذ على أسئلة الدهشة: لماذا كل ما مررنا به يعود مرة أخرى وبمجرد الانتهاء من عذاباته؟.
فيطبق الحزن على صدري مُكَرراً منذ حزني البعيد، حين كنت في الثامنة وفجعت بموت جدي ..إنها مسافات بعيدة من النسيان بيني وبين جدي، لكن المطر القديم يضعني هناك عند شجرة الزيتون الضخمة بجانبه أثناء جلوسه في باحة البيت القديم الكائن في بلوك (إن)
  في مخيم رفح، وكانت الوكالة وزعت المخيم إلى بلوكات حتى يسهل توزيع مساعداتها على اللاجئين.

علبة نيدو

كانت بالنوم تتحايل على كوابيس اليقظة في طفولتها. كوابيسها التي يشعلها في عقلها الكبار، حين يهددونها بنار جهنم، إذا ما كذبت، أو بللت فراشها، أو نقلت الأحاديث بين الأقارب، فشبكت بينهم دون قصد.
وفي ليالٍ كثيرة لا يأتيها النوم فتحاول إشغال وقتها بنسخ العبارات التي تكتبها والدتها إلى والدها المسافر للخليج، ليتفاخر بابنته التي لا تتجاوز السابعة، بأنها تعرف كتابة عبارات الحنين والشوق.
تتعب يداها، ويبدأ النعاس يتسلل إلى عقلها، لكن لحظتها تفيق الكوابيس حولها: "ماما..انه الجيش ..الجيش .. يقترب"، ولا سبيل أبداً في تلك اللحظة لإقناعها أنها دقات ساعة الجدار، فقط علبة النيدو الموضوعة بعناية فوق الخزانة تستطيع بلونها الأصفر ولمعانها تهدئتها بأن الأمور بخير.

أرق السياق

كان من الممكن لها أن تنام ببساطة كباقي الناس، لكنها مصابة بلعنة التساؤلات، ولعنة البحث خلف المألوف، وغالباً لا تجد سوى الفراغ. لا تدري هل ذلك لأن عقلها عاجز؟ أم أن هناك بطبيعة الحال من يبحث وينجح؟.
يتشاغل عقلها في الأسهل، إنها الاقتباسات "الأرق حالة وعي" كما يقول إميل سيوران، وكل ليلة تقضيها مع وعي السؤال يتأكد لها ذلك بشكل مذهل، حين تبدأ الأسئلة المتولدة تنهش لحم الليل.
ويؤرقها الليلة موضوع الكتابة والسياق، الذي من المفترض أن تتبعه مع كل نص جديد. سياق، أليست كلمة تشبه الأفعى، ليس لأن حروفها تخرج ممدودة فقط، بل بمنظرها الجميل الذي يخدع للاقتراب منها، فتجد نفسك ملدوغاً بورطة السرد، وخلق السياق.
 وكم تحب هذه الورطة، وكم تكره السياق الذي تكتب فيه الآن. إنه بصيغة الغائب على لسان الراوي، وهي إحدى الصيغ المتعارف عليها في شكل الكتابة الذي غالباً ما يستدعي اتجاهات السرد الثلاثة: (كان من الممكن لها أن تنام) و(كان من الممكن لي أن أنام) و(كان من الممكن لك أن تنام)، وحتى ما يسمى بالتعدد الصوتي "البليفوني" تشعر أنه محبوك أكثر من اللازم، حارماً القصة من خلقها الطبيعي، ويفضح حالة وعي الكاتب بكتابته عند القارئ.

أنت وأنا

خرجت اليوم إلى الجامعة. أعرف طريقي ولا أعرفه.
نظرت إلى السماء التي لم آلفها حبيسة خلف الغيوم الرمادية، وتعثرت كالعادة بغطاء المصرف الصحي الذي يمتد حتى آخر الشارع، بين جنبات حارتنا المتخمة بأولاد المدارس، وعربات الباعة الجوالين ودكاكين الخضار، والجزار الذي يلتصق بلحم خروفه المعلق كأنه يتدفأ به من لسعات الريح الباردة .
(المهلبية بالعسل ... المهلبية الزاكية)
ابتعدت. التصقت بسور المدرسة كالعادة أيضا، حتى لا تصدمني إحدى هذه العربات المزركشة، أو العيون الصغيرة ببراءتها، تعودت هذا الخجل كلما نظرت إلى أطفال المدارس التي تحيط أسوارها تخوم حارتنا الغربية.
أتثاقل في خطواتي، وأراقبهم بتلصص.. تلك الطفلة تبكي بحرقة، وهي تقف أمام غطاء المصرف الصحي كبير الفتحات، فيبدو أن مصروفها سقط في جوفه.. تحاول جاهدة أن تدخل عوداً رفيعاً، لكن دون فائدة، وذلك الطفل يأكل (الكلمنتينة)، وصديقه يراوغه محاولاً اختطاف بعضها، وترتفع ضحكاتهما حتى شعرت أن أصداءها وصلت عنان السماء، وأخرى تحيط أختها الصغيرة بيدها محاولة تدفئتها، وبالأخرى تصلح ربطة شعرها.. يبقون هكذا صغاراً وحميميين، بمراييلهم وقمصانهم الزرقاء مهما تجددت الأعوام.

من الشمال إلى الجنوب و بالعكس

غادرتْ من جنوب الوطن إلى شماله، بعد أن انتظرته حباً ووردة.
تحدق أمامها وفي حضنها "فوضى الحواس".
ترقب الشارع الطويل، عله يظهر.
قلبت حقيبتها.. الدوزدان.. شاحن الجوال.. أقلام الكحل.
تبحث عن قلم قبل أن يهرب من ذاكرتها، فتخطه حروفاً وئيدة إلى الروح.. قبل أن يشغلها انطلاق السيارة، وسرعة مرور الأشجار، وكلمات الجدران، ومطاعم الفلافل الباهتة، عن اصطياد لحظاته، وحبسه بين دفاترها.. قبل أن يهرب من قلبها، كما هربت هي من قدره وابتعد عنها، حيث أخذته الحياة والدروس الخصوصية وابنته.
"التي لم يكن اسمها مثل اسمي كما وعدتني.. بل أصبحنا مثل كل المحرمات التي تزورنا ليلاً في مساءات اللاوعي والكوابيس.. بيننا أسوار وممرات أركض فيها بحثاً عنك، لكنني لا أجدك...الجنوب أنت، وأنت الوطن، والشمال تكتيك مرحلي ينسيني بقايا غصة في الحلق والمنام".

سطر في ورقة

خرج مسرعاً بعد انتهاء دوامه متوجهاً إلى بيته. كان يشعر بحاجته إلى الوصول، لأن هناك اليوم ما يستدعي أن يتمدد طويلاً على السرير، ويفكر في الكثير من الأشياء.
أسعد ينظر إلى الفراغ واضعاً كفه على جبينه، ممدداً على سريره، الذي يستشعره كفنا سيحلق به أبداً في سماءٍ سوداء خالية من القمر والنجوم، حين قال ذلك لأمه ذات مرة ردت عليه ساخرة: "السرير ثقيل على الطيران".
تذكر كيف كان تفكيره مغيباً عما دار اليوم داخل الفصل: "يا ترى هل شعرت الطالبات بشرودي؟ فقد سمعتهن يتهامسن. أستطيع استرجاع السنوات الماضية جيداً، فهي مثل أوراق طويلة طويت بسرعة، ولا شيء مثير في هذه الأوراق غير سطر في كل واحدة منها يلخص ما حدث سابقاً، ويبدو أن عليّ اليوم أن أنهي ذلك السطر، وكالعادة بكثير من الصعوبة..".

هجران على لوح أسود

هكذا بدأت، التي هجرت زوجها الشاعر يومها: تناولت طبشوراً، وكتبت: "من الجميل أن تهدي كتابك لآخر ليس له علاقة بمضمون أو زمان أو حتى تحرير هذا الكتاب! وربما كانت فكرتي هذه سطحية نوعاً ما، ولكن الأجمل أن يعود الآخر فيهدي الكتاب لصاحبه الأصلي، أما هذه ففكرة مضحكة".
كتبت هذه العبارات على اللوح الأسود في اليوم العشرين على هجرها لزوجها، ثم أكملت طريقها إلى الحمام، وكم تكره حمام شقتها الضيق، فمرآته معلقة تحت لمبة شديدة الإنارة، تصدمها، ليس فقط بسواد الهالات تحت عينيها، إنما بكل نقطة نمش باهتة حول أنفها، والأفجع من ذلك هو اضطرارها لرؤية قصة شعرها الجديدة، فيتأكد إحساسها كلما دخلت الحمام أنها ليست سوى خنزير صغير ملطخ.. إنها تمقت تلك الصباحات التي لا يشفع لها سوى اللوح الأسود.

Your Baby


تضحك. كيف تضحك في هذا الموقف، ماذا سيقولون عنها...
كانت المرة الأولى التي تشعر بها بأثر التخدير الطبي الموضعي الذي سمعت عنه سابقاً عشرات القصص، لكنها لم تتوقع أن الأمر سيكون مثيراً للدغدغة إلى هذا الحد، خاصة عند نهاية عمودها الفقري.
بحثت في وجوه الأطباء المطلة فوقها على أثر خطوط الضحك المنسية حول الفم، علها تدل على كوميدية أحدهم ليعذرها إذا قهقهت عالياً في مثل هذا الموقف، لكنها لم تر غير الطبيبة التي تتكلم الانجليزية بتلك اللكنة البريطانية الجافة، وهناك الطبيب الهندي الذي يبدو مشغولاً بأدواته.
لم تضحك.. اختفى الإحساس بالدغدغة ولم يعد هناك سوى اللاقدمين واللابطن واللاظهر واللاساقين، فالبنج الموضعي شل ما تحت سرتها حتى أظافر قدميها.
ولم يلبث أن خاطبها الطبيب الهندي ليقترح مسكناً يجعلها تنام، بعد أن رأى ضربات قلبها تتراكض على جهاز التخطيط الموجود في الغرفة... لم ترد.


هجرة الهبات


كنتَ جالساً على ذلك المقعد، وحيداً ترتكز إلى السور القديم، ومحدقاً في الأشجار السوداء. عرفت أني سأجدك. ناديتك عدة مرات. تأخرت حتى نظرت إلي قائلاً بدهشة: "حرماني دفعني للظن أني قد أكون تخيلت صوتاً أنثوياً، وليس انك تناديني حقيقة".
تندرت بعبارتك تلك لأيام وأيام، وذلك الكرسي الذي لا يخلو من جلساتك المسائية وساندويتش الفلافل. كنت آتيك محملة بكتبك فتُخرج ورقتك المهترئة وقلماً من جيبك، تضع الدوائر والخطوط تحت الكتب التي استرددتها مني، وأخرى لا تنفك تلومني على تأخرها: "يبقى لديك البستان لبولز، والسفينة لجبرا، ومجلة تشكيل، أنتظرها الأسبوع القادم".

ثرثرة لطيفة


حدثوني أنك تمتمت اسمي بعدما أفقت من العملية الجراحية في ضرسك، ولم يعرفوا بعد أن كل ما بيننا كان ثرثرة لطيفة، لا تجتاز قضبان القلب، أو حتى علموا بشجارنا الأخير، وحديثك العقيم عن النماذج التي غدوت محصوراً بها، وكنت ذاتك أحدها.
البداية جميلة، وكم بريئة البدايات، خاصة في محل لبيع الزهور، حين بدأ صاحب المحل العجوز يتحدث عن "عدلي جاسم" كاتب المقالات المعروف في تلك الصحيفة اليومية، رافضاً دعوته إلى تجنب الكفاح المسلح. وأنا أحاول تجاهلك أثناء ثرثرة صاحب المحل الملتحي، محدقة في الزهور، رغم أنني كنت أراقبك: كم هي دقيقة ملامحك، خاصة حين تزم شفتيك عقب تفاخرك بأنك تكتب في الجريدة ذاتها، لكن في الشؤون الثقافية.
أتأمل يدي العجوز وهي تصنع لي ولك باقات الورد، واطلب منه مراعاة أنها مهداة إلى مريضة. يسألني صاحب المحل "خير إن شاء الله؟".

تفاصيل رجل عاشق



أَنظر إلى الساعة. إنها الواحدة وسبع عشرة دقيقة بعد منتصف الليل، يعني أن عقارب الساعة في منزلك تشير إلى الثالثة وثماني عشرة دقيقة فجراً.
 أتخيلك ترتدي بيجامة قطنية بيضاء، وربما ذلك (الترنغ) الأزرق.. تمشي حافياً بأصابع قدميك الطويلة المشعرة، متنقلاً بين أرجاء منزلك وحيداً، وربما تتوجه إلى الثلاجة متناولاً زجاجة الماء، فتشرب، وتشعر فجأة عندما ينزل الماء إلى جوفك كأنك لم ترتوِ أبداً.. (قَلِق كلانا يعرف ذلك..)
ترجع الى الكنبة الزرقاء، تجلس أمام التلفاز وأنت تكرر الأفلام ذاتها.. تنعس.. تتوجه الى المطبخ.. تسمع صوت خطواتك وأنفاسك لأنك وحيد.. والمنزل واسع والمنطقة هادئة، ولأسبابٍ أخرى، مثل أنك تثير ضجة كبيرة بالنسبة لقدمين اثنتين فقط.
وليست خطواتك وحدها ذات الصوت المرتفع، ويداك أيضا تثيرانه بعبثهما بالأواني، وأنت تحاول صنع القهوة. اضافة الى تكات الولاعة كل خمس دقائق.
وهناك ضجة الأضواء التي تتناساها منارة في المنزل، متلمساً الونس، وربما ضوضاء قرية "البندار" النائمة في ذاكرتك.

رجل في الأربعين



هي لا تعرف ماذا يعجبها في رجل يكبرها بعشرين عاماً، أو حتى لماذا تحبه؟ لكنها لا تنكر أن الأمر مثير، ربما لأنه يملك سلطة عليها، في حين لم تخضع قبل ذلك لسلطة الرجال.
في نظره، هي جميلة، وتكتب له قصائد تدهشه، وذات ضوضاء، وتغيظه دائماً بأنه لا يسرد النكات جيداً، مثلما تفعل. ويشعر أنها نوع غير مألوف من النساء، يرغب في تجربته.
أحياناً يتجادلان، ونادراً ما ينتهي الجدل ببكائها، وفي كل الأحوال يرضخ باختياره. وهناك أيام تقضيها بكاملها في مصالحته.
هذا المساء اقترب هو من حافة الجنون، فقد تأخرت عن موعدهما. أخذ يراقب الكتب المبعثرة على الرفوف الخشبية البيضاء، التي قالت عنها حين دفعها إليها في لحظات حبهما: "أبعِد قبلاتنا عن أرشيفك الكئيب".
ينظر إلى ساعته. يتناول القهوة، وأحياناً يراقب نفسه في المرآة، متذكراً حين همست في أذنه: "لن أتركك بسبب وجود الشيب في شعرك، فلا داعي لصبغه".. يبتسم: "كم أحرجتني ليلتها.. إنها تحكمني"، وأحياناً أخرى يكلمها (نفسه): "تخيفني مشاعري وضعفي عن ملاحقتها.. الأمر تجاوز حده".
 في اليوم التالي دخلت مبتسمة إلى مكتبه، تعتذر عن عدم حضورها، لكنه لم يدعها تكمل: "لا حاجة لأي أعذار.. لم يعد هناك ما يقال بيننا"، وكأن رصاصة أصابت قلبها. خرجت مسرعة. لم تفهم ماذا حدث؟ كتبت له العديد من الرسائل والقصائد، محاولة اجتياز العشرين عاماً، التي ظهرت فجأة، لكنه كان جامداً وبارداً، مثل حجر الصوان. كان كأنه ينتقم من حبه.

جلوس


جالسة أعلى الدرج/ طفلة تحمل سكيناً تتسلق نحوي/ مددت يدي لإبعادها/ لكنها تتسرب إلى بخفة/ أقاومها بتشتت/ أحرك ذراعي ورأسي في كل اتجاه/ علّني أدحرها/ لم أنجح. اكتستني تلك الطفلة/ مزقت سكينها روحي بدهاء غاب عني/ يومياً هناك طفلة تحمل سكينا، وموتٌ داخلي يتجدد.

تأويل الحرير



طرقات شديدة على الباب/ وسقطت كرات الحرير/ إحداها تحت الكرسي/ القطة تموء وتسحب أخرى/ تصطدم برجل الطاولة/ الصورة ذات الإطار المطرز تهتز/ رائحة البحر الحرّيفة تعبث بالستائر/ ازدادت الطرقات/ تنحني العجوز وعيناها اللامعتان معلقتين بالنافذة/ تلمح الأنوار عند الميناء/ وتبتسم لغد محمل بأميلات العودة/ تلتقط الكرة الصفراء/ وتتمنى لو أن الخضراء أقرب/ النور يتصاعد/ ترتدي نظاراتها/ هدأت الطرقات/ ترجع إلى مقعدها/ ترقب الخيط حول القطة/ لا جدوى من جمع الكرات/ أو صنع الإطارات المطرزة/ لو أن سمعها يعود../ لتسأل كيف الضوء تحول ناراً؟.

حيرة

بين زهرة دفلى تحييني وماء راكد يشلّني/ بين نورس خفاق يسكنني ونبيذ معتق يغيبني/ أنا غجرية عاجزة

إدراك



يرفض إعطاءها تلك الإقحوانة النضرة أبداً/ ذات جرح أشفق عليها ومنحها حزمة زنبق تحتضر/ لو أدرك المسافات بين صراحة مبادئها وقبولها تلك الحزمة/ لأشفق على نفسه.


قبر أمي

 معالم قبرها تغيرت عن آخر مرة زرتها فيها، فقد غدا كئيباً أصفر، بعدما كان لونه الأبيض يعزي روحك قليلاً.
"آه يا أمي كيف سيغدو قبرك بعد بضع سنين".
آه لأمه، تتعثر خطواتك حوله... تتناثر معها الحجارة، تماماً مثلما تتراشق شظايا روحك في كل زيارة.
"لو أنك تعرفين يا أمي، ماذا يحدث لي بعدك؟ بالأمس ساعتي توقفت لأول مرة، منذ اشتريتها لي قبل ثلاثة أعوام".
وغدوتَ مرتاباً أن توقفها بمثابة إنذار لموت قريب، أو بالأحرى "موتي أنا، المشكلة ليست أن أموت ولكن أن أنتظر.. أنتظره…".
بالأمس توفي أبو فتحي صانع الفخار، جاركم، في الماضي حملتك أمك صغيراً، إلى هناك، تشترون أواني الشرب خفية عن أبيك، بعدما تعودت كسرها.
كَبُرَ سعد قليلاً وغدا يذهب وحيداً، يدخل من فتحات الشباك التي تنثني بسهولة، ويتسلل سعيداً بعدما يطمئن إلى دخول (أبو فتحي) إلى بيته، الذي تفصله عن الكشك ستارة خضراء قذرة رُسمت عليها ورود بنية، وتبدأ لذتك مع الطين الذي ترك آثار شهوته على ملابسك، وتصرخ أمك: "البقع صعبة على الماء المغلي والزهرة".
ذات مرة رفعت الستارة الفاصلة، تتلصص على الرسومات الأخرى، ووجدت (أم فتحي) تلهو بزوجها.