هجرة الهبات


كنتَ جالساً على ذلك المقعد، وحيداً ترتكز إلى السور القديم، ومحدقاً في الأشجار السوداء. عرفت أني سأجدك. ناديتك عدة مرات. تأخرت حتى نظرت إلي قائلاً بدهشة: "حرماني دفعني للظن أني قد أكون تخيلت صوتاً أنثوياً، وليس انك تناديني حقيقة".
تندرت بعبارتك تلك لأيام وأيام، وذلك الكرسي الذي لا يخلو من جلساتك المسائية وساندويتش الفلافل. كنت آتيك محملة بكتبك فتُخرج ورقتك المهترئة وقلماً من جيبك، تضع الدوائر والخطوط تحت الكتب التي استرددتها مني، وأخرى لا تنفك تلومني على تأخرها: "يبقى لديك البستان لبولز، والسفينة لجبرا، ومجلة تشكيل، أنتظرها الأسبوع القادم".


تشاجرنا، وتعللتُ بأن الوقت غير كاف، فقطعت حديثي لأنك لا تناقش في مواعيد الاسترداد، وربما تبدأ آخر لا ينتهي حول الميثولوجيا والأديان، أو تمارس عادتك الجميلة في تلخيص محتوى كتب جديدة لم أقرأها بعد، إلى أن تنبهنا الأمطار وأحياناً هدير طائرات الإف 16 أن الوقت حان للرحيل.
أتذكر أن هناك مرات قليلة كنت تأتي أنت فيها، وتبدأ ما تسميه محاولات رجل تعس: "لماذا لا ترغبني النساء؟ ألست وسيماً كفاية؟" أحدق لحظة أو لحظتين في بنيتك النحيلة ونظارتك الطبية وأعلن متحاشية الرد: "التحليق العسكري عاد من جديد".
نقضي أمتار العودة ننعم بلغة التعاطف، وأخبرك كيف يهجر الحب النساء في أوقات الحرب، ويحمل العشق ذنب شياطين العالم بدل كونه هبة تنقذك منها، ونصمت فجأة ككل مرة حين لا نجد ما يواسينا، وأحياناً نعود إلى ورقتك المهترئة وجدلنا المسائي.
 رجعت الى كرسيك بعد أسبوع. لم يتغير شيء حتى ذلك الخيط الأصفر القصير لا يزال مهملاً على ياقة سترتك. تبدأ في عد الكتب المستردة، وتقترح جديداً لكن عواقبه قديمة: "ما رأيك أن نكتب عن بعض المثقفين الكبار وزيفهم؟".
أتجنب رغبتك في اثارة المشاكل خاصة حين تخلط بين النقد الشخصي والأدبي في مقالاتك، وأسرد لك قصصاً لا ترعب سوى أصحابها: "جاءتني إحدى الفقيرات تطلب مني أن أجد لها طبيباً مختصاً في علاج ابنتها من التبول اللاإرادي، فقد خطبها رجل غني لابنه الذي يعاني من إعاقة في عقله". تضحك طويلاً، وأنا أنتظر أن تنتهي قهقهاتك التي غدت مفتعلة.. أتمشى وأتعمد الابتعاد.. تناديني بصوت عال: "اسمعي هل قرأت كتاب الله ليس كذلك؟" وصرخت متمنية أن تهجرني آخر الهبات.
ورددت لي الصراخ: "لكن هل تقصدين الروح أم البصر؟" وأبتعد.

0 Responses