الناقد فخري صالح يتحدث إلى أسماء الغول



شعراء قصيدة النثر بحاجة إلي وقفة 
مع تجاربهم وتجارب أسلافهم

واجهتني تحديات كثيرة خلال إجراء هذا الحوار مع الناقد والمترجم فخري صالح، كإمكانية إيجاد وقت نجري فيه اللقاء خلال اليومين اللذين قضيناهما في مدينة جونجو بكوريا الجنوبية، وذلك في وقت يعج بالندوات وإعداد الكلمات التي من المفترض إلقاؤها خلال الجلسات التحضيرية لمهرجان آسيا وأفريقيا الأدبي، المقرر عقده في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وتنظمه مؤسسة تحمل العنوان ذاته بدعم من وزارة الثقافة الكورية.
ولم أجد مفراً من إقلاق راحة الناقد فخري صالح، وإجراء الحوار خلال ساعات الفجر الأولي، بينما التحدي الآخر يتعلق بصعوبة مجاراة حيويته وفطنته وحساسيته العالية تجاه شؤون النقد، وتذوقه الأدبي، وقراءاته الموسعة..
بيد أن كل ذلك هان، إضافة إلي الوقت المديد الذي استغرقته الصياغة، بسبب انعدام برنامج الوورد العربي في أنظمة الحواسيب هنا، أمام حوار غير عادي ولا يشبه تلك الحوارات الروتينية التجاذبات، بل نقاش ومقارنات تقودها الأفكار المتواليةإلي عقله، لدرجة أنه لم يجلس كثيراً إلي طاولة النقاش، بل كان يتحرك جيئةً وذهاباً تماشياً مع الدفق الفكري والدقيق للكلمات وطاقاتها.
الناقد فخري صالح ألف وترجم أكثر من خمسة وعشرين كتاباً، وكان قد تخرج من قسم آداب اللغة الانكليزية والفلسفة في الجامعة الأردنية في العام 1998، وذلك بعدما تمرد علي كلية الطب، اللازمة المعروفة في سيرته الذاتية.. حيث وبتخطيط ترك الطب مودعاً المشرحة وجثثها وملاحظاته الطبية، وأخلص لعشقه وموهبته في النقد، إذ كان حتي ذلك الوقت قد نشر أربعة من كتبه الشهيرة حول الرواية والقصة القصيرة في فلسطين وتجربة أبو سلمي الشعرية، وهو لم يكمل آنذاك الرابعة والعشرين بعد.
يتذكر صالح تلك الأحداث بحماس كبير، ولكن أحياناً تشعر أن الذكريات أخذته إلي ألم دفين يتعلق وقتذاك بحزن والديه، اللذين كانا ينتظران في قرية اليامون بجنين عودة ابنهما الدكتور، إلا أنه سرعان ما يطرد ذكرياته قائلاً: لكني كنت أعرف طريقي منذ تلك الأيام، وأني أرغب بقية حياتي بالخوض في بحار النقد والأدب .
فخري صالح، لا أحد يملك إلا أن يكون صديقه، لإنسانيته وطيبته الساميتين، وفي الآن ذاته لا يسعه سوي تقدير آرائه وإبداعاته النقدية، فكما يقول عنه صديقنا المشترك الشاعر الهندي أنفر علي:
This is the creative mind to be a human being as much as it is profeional
هذا هو العقل المبدع.. أن يكون إنسانا بقدر ما هو محترف .
إيذاناً بالنشر، تحدثنا في الشعر، والرواية، والحداثة، والنقد، ولغير العلن تهامسنا عن جدوي تماهي الأدب الفلسطيني بالقضية، وسر محبته لميلان كونديرا، وبضع آراء حول بعض الكتاب والكتب.. وجاء العزف عن نشرها، رغم أن شيطان الصحافة لا ينفك يغويني بالذهاب إلي عكس ذلك، والدخول في خانة الثرثرة وردود الفعل.

اقتراباً من جغرافيا درويش




مرعبة اللحظات التي ستأتي، أفتقده فيها وأتذكر عينيه.. صوته..تعليقاته الساخرة.. حنانه، وامتلاكه لسلطة البداهة، لقد كان غريباً في مدينة غريبة، يحتفظ بتذمره داخله من سذاجة مستضيفه إلا أن الضيق لا يلامس ملامحه.
قوي، يلتزم بتعليمات طبيب القلب، كل الحياة في صوته وضحكته وجسده الطويل الرشيق، الذي لا أتخيل الآن أي كفن ذاك الذي يلفه.
درويش العذب الذي كان يناديني بـ'يا بنت'، وتارة: 'يا عمو' وحين اعترضت ضحك قائلاً: بماذا أناديك إذن يا غزاوية؟...فأرد مدافعة أنا لست غزاوية أنا لاجئة من صرفند العمار. درويش وصف مدينة سيؤول بالجيدة، لكنه مصر أن لا مدينة تنافس في جمالها باريس، سألني أين تقع مدينة جونجو الريفية في شمال أم جنوب سيؤول؟، فأجبت دون تردد في الشمال، وبصوت منخفض أضعف تبعتها بـ'أظن'، ثم سألني عن اسم النهر الذي يمر تحتنا؟ فأجبت لست جيدة بالجغرافيا، فقال بغضب طفيف: كيف تقولين إذن أنك دليلٌ سياحيٌ؟

يباس في القلب

أحبها عند الحاجز العسكري وكان يملك كل الأسباب ليفعل ذلك وتتعمق في خيالاته منذ تلك اللحظة.
قال لها فيما بعد: "كنت جميلة صغيرة وضائعة إلى أبعد حد. تحاولين تجاوز السيارات المتساحقة التي تنتظر الاحتلال ليفرج عنها".
كان حينها يمتلك سيارة سبارو بيضاء قديمة، وكان يبدو في العشرين إلا أنها عرفت لاحقاً أنه كان في الثلاثين من عمره.
ابتعدا وبقيت ساكنة عينيه ليتقابلا بعد ثلاثة أعوام صدفة أيضاً وكما انتشلها المرة الأولى من الانتظار وكان بوصلتها. انتشلها المرة الثانية من حزنها ووضعها في مواجهة الحب بدل تقديم روحها قرباناً للعدم.
"القبلة الأولى"
لم يكن الأمر بالحسبان، كانا يتكلمان ويكتشفان المتشابه بينهما، في البداية شعر أن خلاياه تشتهيها بمجرد أن يشم رائحة كريم اليدين الذي اعتادت استعماله خوفاً من تقشف بشرتها في الشتاء، فاقترب وكانت هي الأخرى مأخوذة بشفتيه المكتنزتين رغم أن السجائر غيرتهما إلى اللون الأزرق. لم يتنبأ لكنها باغتته وبادرت بالقبلة، فباغتها ثأراً لرجولته بلسانه وكأنه كان يتربص لفمها.
ضحكا كثيراً حين تصارحا حول القبلة الأولى وبررا جرأتهما أنهما لم يريدا إخفاء مشاعرهما الحقيقية تحت غطاء موهوم من هالات الأنبياء.
"القبلة الثانية"
كان يعتقد أنه اعتاد على رائحة كريمها لكنه تفاجأ أن هناك المزيد مما يثيره فيها، فهناك شاماتها المتناثرة على رقبتها وبشرتها البيضاء الصافية، ما جعله مقتنعاً أنها لو شربت رشفة ماء فسيراه يجري في حلقها، وصدق خيالاته لدرجة تعمد مراقبتها مرة أو مرتين تشرب، كانت شهوته تسكت عقله فلا يقتصر الأمر على لسانه بل أصبح للحب شياطينه المقدسة.

ورقة واحدة مشوشة

ورقة واحدة وعينان حزينتان كأولئك الدراويش الهائمين في حضرة التواشيح والذكر، هذا كل ما تملكه حين يشدها تجلي اللغة من شرايين قلبها لتدخل إلى نار الكتابة وتحترق بألسنتها ...تعرف أن ورقة واحدة لا تكفي كي تكتب إلا أنها غالباً لا تمتلك غير ورقة واحدة وبالأحرى ظهر ورقة مشوشة بالكتابة من الجهة الأخرى.
وتصبح الكتابة عندها ليست فقط موسومة بقلق المعنى بل بقلق آخر فني انه ضيق الورقة أمام اتساع اللغة..ومتأكدة أن هذا القلق الفني الذي يعكر صفو السرد ليس صدفة بل هي من يتآمر على هذا النقص..فالبياض يخيفها ويجبرها على ملئه بنزيف كتابة يقربها من الموت للوصول إلى النموذج.

بدايات


 إلى نائلة خليل 

اليوم فقط بعد ثلاث سنوات على استخدامها نظرت إلى نوتتي فاكتشفت أنها أليفة وقريبة من قلبي، واليوم أيضا شعرت أن حبي له منساب إلى مسامي..نظرت إلى عينيه الضيقتين فعرفت أنهما تشبهان عيني وأني منه وهو مني وليس مجرد أن قطاراتنا تجاورت في محطة اضطرارية اسمها الأمومة.. نظرت إليه طويلاً يستدعيني الشوق بسهولة دون غبش... فكانت هذه بداية الحب.
***
منذ كنت في الثالثة وأنا اعرف أن شأني سيكون كبيراً وأنتظر المصادفة أو تطوراً طبيعياً ليتحقق ذلك الشأن لكن الأعوام تمر والفشل يتلاحق، لأكتشف ألا شيء تغير. فأقنع نفسي بأنها الظروف وليست الإمكانات، لكني اليوم عرفت أن الموهبة درجات وأني موهوبة بتواضع، لذلك قررت ألا أبكي على أحلام طفلة متفائلة... فكانت هذه بداية الرضا.
***

مسافات النسيان

كلما أمطرت شعرتُ أني أعرف اللحظة، كأنها مختبئة في الماضي. وأعادها المطر القديم إلى الحاضر. انه يعيد كل الوجوه الغائبة، والأحباب الذين خطفهم الموت بعربة خرافية.
انه مطر قديم يشرع النوافذ على أسئلة الدهشة: لماذا كل ما مررنا به يعود مرة أخرى وبمجرد الانتهاء من عذاباته؟.
فيطبق الحزن على صدري مُكَرراً منذ حزني البعيد، حين كنت في الثامنة وفجعت بموت جدي ..إنها مسافات بعيدة من النسيان بيني وبين جدي، لكن المطر القديم يضعني هناك عند شجرة الزيتون الضخمة بجانبه أثناء جلوسه في باحة البيت القديم الكائن في بلوك (إن)
  في مخيم رفح، وكانت الوكالة وزعت المخيم إلى بلوكات حتى يسهل توزيع مساعداتها على اللاجئين.